- الإهدائات >> |
الطبيعة يكتنفها السر.
بقلم الدكتور مصطفى محمود
إنها ليست كما تبدو علي السطح بالنظر الساذج الموضعي.. سماء الليل المرصعة بالنجوم ليست كما تبدو مجرد ملاءة سوداء عليها نقط فضية.
إن فيها عمقا واستسرارا.
والبحر ليس مجرد حوض مليء بالماء المالح.
إن فيه هو الآخر.. عمقا.. ورهبة.
إن رؤيته وهو يجيش ويتلاطم.. تهز النفس.
الطبيعة أعمق من مجرد كونها خريطة.. ومسطحات ممدودة..وشكلا جغرافيا.
إن فيها عمقا كالعمق الذي نراه في عين وحش كاسر مذبوح يتألم.. إن الوصف الموضوعي لماء البحر بأنه ماء مذاب فيه سلفات صوديوم وسلفات ماغنيسيوم وكلوربوتاسيوم.. إلخ.. إلخ.. وصف مضحك.
هناك نوع عميق جدا من التخاطب.. بين الإنسان والإنسان.. وبين الإنسان والطبيعة.. يتم بدون العقل.. يتم عبر العقل.. يتم بدون نظر موضوعي.. بالإلهام.. بالرؤية الوجدانية.. والاتصال المباشر بدون وساطة الكلام.
حاسة سادسة أو سابعة تكشف للإنسان روح الأشياء في لحظات.. وفي ومضات خاطفة.. فيحس كأنما هذه الطبيعة الموضوعية الظاهرة للحواس ليست هي كل الحقيقة.
وإنما هناك شيء وراءها.. وإنها مجرد جسد.. مثل الجسد الممدد علي مائدة العمليات.. جسد وراءه شيء
إن كل ما يبدو للحواس له دلالة رمزية فقط.. إنه مجرد شفرة للحقيقة. إن الكثرة التي نراها حولنا كثرة رمزية أكثر منها كثرة حقيقية.
وحينما يأخذ العقل بهذه الجزئيات التي يراها.. ويقف عندها.. يضل.. يتوه.. فهناك ألف مليون مليون مليون شيء مختلف في الدنيا ومع ذلك, فالاختلاف ظاهري فقط.
وكل هذه الاشياء المختلفة مترابطة في سياق عضوي كأنها أعضاء جسد واحد.
الحركة والكهرباء والحرارة والضوء والصوت والمغناطيسية جميعها شفرة لشيء واحد.. ودلالات رمزية لحقيقة واحدة.. ومترادفات لغوية لمعني واحد.. هو الطاقة.
ما يبدو لنا تكاثرا هو في الحقيقة واحد.
شيء واحد يكشف لنا عن وجوده بملايين الرموز.. إن كل فصل تاريخي بذاته عمل فاشل لا يوجد ما يبرر ما بذل فيه من دم وتضحيات.
التاريخ عملية ثورية تفشل دائما في بلوغ أهدافها.. كل عصر يحمل بذور فنائه فيه.. ومع ذلك, فأحداث التاريخ الفاشلة لها دلالتها ودلالتها تقوم عبرها.. وعبر نهايتها.
معني التاريخ في المستقبل الذي يحلم به الإنسان.. في الحرية التي يحاول تحقيقها.
والتاريخ ماض في تسلسله.
والماضي لا يموت.. إنه يبعث في الحاضر بألف صورة وصورة.
الواقع رموز..
وبدون هذا الفهم الرمزي للواقع يبدو الواقع كثيفا غليظا.
إن استشفاف الرموز والمعاني من الواقع الغليظ الكثيف الجاف يخفف من جفافه وغلظته ويضيؤه..
وبدون هذه الرؤية الوجدانية للواقع يصبح الواقع كابوسا.
الرؤية الموضوعية تجعل من الواقع كابوسا يجثم علي الحواس.. وتجعل من مفردات الواقع حقائق نهائية.
والإدراك لا يتعامل مع الواقع علي هذا الأساس.
الإدراك يخطو عبر الواقع ويتعالي عليه ويبحث عن معناه.. وراءه.. خلفه.
إنه يتعامل مع رموز الواقع باعتباره حقائق ناقصة.. يبحث لها عن معني.. هل جربت البنج الموضعي؟
هل جلست علي كرسي طبيب الأسنان وفتحت فمك وأسلمته نفسك ليحقنك بالبنج.. ثم بدأت تتفرج عليه وهو يقتلع ضرسك من جذوره ويخرجه بيده مغموسا بالدم.. وأنت تتفرج عليه في فضول وكأنه ضرس رجل آخر.. وقد مات شعورك تماما.
إن منظر الجراح وهو يحاصر الجلد بالبنج ثم يقصه في هدوء كأنه يقص قطعة من الصوف الإنجليزي.. منظر غريب.. والأغرب منه منظر المريض وهو يتابع هذه العملية في دهشة.. وينظر إلي جلده والمقص يقطع فيه بلا ألم.. وكأنه شيء آخر غير ما هو عليه.
إنه يسأل نفسه :
من أنا..؟
أنا لا يمكن أن أكون ذلك الشيء الذي يقطعه الطبيب, ويقصه ويرفعه.
أنا لست ذلك الجسم الذي يبتره الجراح.. أنا لست الشعور الذي مات.
أنا لست موضوع تلك العملية.
أنا مجرد متفرج علي ذلك الشيء الموضوع علي المائدة.
وهو إلهام صحيح تماما.
إن الإنسان ليس موضوعا.. ولا يمكن إحالته إلي موضوع ينظرإليه من خارج كما ينظر إلي خريطة جغرافية.
الإنسان هو الآخر له أعماق جوانية لا تحيط بها النظرة الموضوعية.
الإنسان داخله نهر من الأفكار والمشاعر, متجدد, متدفق بغير حدود, نهر من الأسرار .. غير مكشوف لأحد سواه هو.. ولا شيء يبدو من هذا النهر من خارجه.. ولا يمكن أن تحيط به نظرة موضوعية.
وأنت حينما تتخذ من الإنسان موضوعا.. يفقد في يدك الحياة.. ويفقد الوحدة.. ويتفكك ويتحول إلي جسد ..إلي مادة تشريح.. إلي شيء.. أي شيء إلا الإنسان الذي تقصده.
واقع الإنسان الملموس المرئي الظاهر.. ليس هو الإنسان.. إنه إفرازه.
والعلم يتحسس الإنسان من خارجه فقط.. يفحص بوله ودمه ونخاعه وعرقه ولعابه.. يفحص إفرازاته.
وهو لا يستطيع أن يخطو عبر هذا المظهر .. إلا بالاستنتاج.
ولكن الفن يستطيع أن يدخل الإنسان عبر العقل والمنطق ليخاطبه من داخله.. ليخاطب مكمن الأسرار فيه مباشرة وكذلك الدين.
والحب..
لحظة الحب والوجد.. مثل لحظة الكشف والإلهام.. تتكاشف فيها القلوب بلا وساطة.
السر يخاطب السر.
وأنا أؤمن بالعلم.
ولكني لا أكتفي به.
وأؤمن بحواسي الست ولكني لاأكتفي بها.
وأعتقد أن الطبيعة يكتنفها السر.
وأن الحقيقة مغلقة أمام كل محاولة لكشفها بالرادار والترمومتر والمجهر وحده.
وأن الطبيعة في ضوء العلم وحده كابوس حقيقي.
والحياة بالمنطق وحده سخافة.
والواقع بالنظرة الموضوعية مسطح تماما.
الطبيعة بدون شعر.. وبدون موسيقي غير طبيعية.
هل هي رومانتيكية الرجل الشرقي؟
نعم أعتقد أني رجل شرقي تماما.
ولا أعتذر من أجل شرقيتي
جميل الوضوع مشكور عليه
تحياتى
(رايق)
شكرا لمرورك رايق
واتمنى ان الموضوع يكون عجبك
مصطفى محمود ده مالوش حل
مشكور عالموضوع
الموضوع حلو كتير
فعلا الطبيعه مليانه جدا بالاسرار و الغموض
الصراحه الموضوع فوق الروعه وانا بشكرك على اختيارك المميز والدكتور مصطفى محمود ما يختلفش عليه اتنين
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
الإجراءات : (من قرأ ؟)
لم يشاهد الموضوع أي عضو حتى الأن.
مواقع النشر (المفضلة)