- الإهدائات >> |
المدفع الماكينة
عبد الراضي .. رامي المدفع الماكينة ــ أو الرشاش المتوسط كما كانوا يطلقون عليه ــ كان يحتل موقعه يوميا على الشاطئ الغربي للقناة في منطقة الفردان .. كان ضمن القوات في اليمن لمناصرة الثورة هناك .. وعادوا بعد نكسة 1967 ليتخذوا موقعا دفاعيا .. في مواجهة العدو الإسرائيلي المحتل .. كان دمه يفور كل ليلة .. عندما يأتيه صوت من الضفة الشرقية للقناة بلكنة عربية ينادي عليه بإسمه .. أو بأسماء بعض زملائه .. لم يكن يرد .. ولكن كان يتعجب .. كيف عرف اليهود اسمه وأسماء زملائه الآخرين .. ولكن زال عجبه حين تذكر أن اتجاه الريح يتغير أحيانا .. فيحمل أضعف الأصوات إلى مسافات بعيدة ، وربما طارت بعض حوارات الزملاء مع الرياح في أحد الأيام والتقطها اليهود .. المهم لم يقف كثيرا أمام هذه المسألة .. ولكن ما كان يملأه غيظا وكمدا هذه الاستثارة ، وهذا السباب بأقذع الألفاظ التي تحملها عباراتهم من الضفة الأخرى للقناة .. كان يستشيط غضبا ، ويغلي الدم في عروقه .. ويتمنى أن يرد عليهم بالنيران .. أمامه المدفع الماكينة ، وبه الذخيرة على أهبة الاستعداد .. ولكن التعليمات صارمة .. لا إطلاق للنار تجاه العدو لأي سبب من الأسباب إلا عند صدور أوامر مباشرة بذلك أو لو حاول التعدي على مياه القناة أو عبورها .. كانت توجيهات القائد أننا لازلنا في مرحلة إعداد القوات والدفاعات ، والعدو يحاول استفزازنا للرد عليه وبالتالي استنزاف الذخائر التي في حوزتنا قبل أن يكتمل تنظيم الدفاع .. لذا يجب الحفاظ على هذه الذخيرة لصد أي عدوان أن هجوم للعدو .. كان عبد الراضي يتجلد ويتماسك على مضض .. ولكن على حساب أعصابه الملتهبة .. وصبره الذي يكاد ينفذ .
كان يعود إلى الملجأ الميداني لينضم إلى زملائه بعد انتهاء دورة الحراسة الليلية .. ولكن لا يلبث أن يجهش بالبكاء .. لم ينجح زملاؤه في معرفة سبب بكائه .. فقد تكتم تماما .. لم يبح بأي شيء .. كان زملاؤه يعتقدون أنه ربما حن لرؤية ذويه في الصعيد بعد طول غياب .. فقد كان بعد المسافة يجعله يقضي فترة أجازته الميدانية في الوحدة .. ولكن نسى الزملاء أن أهل الجنوب في الصعيد لا يذرفون الدمع أبدا لغياب ، أو لبعد عن الأهل .. وهذا ما لاحظه زميله الجندي حسام ابن الأسكندرية .. الذي عاشر أهل الصعيد الذين هاجروا واستقروا في حيهم ( محرم بيك ) وعرف طباعهم وخصالهم .. بذل حسام جهده لمعرفة السبب الحقيقي لبكاء عبد الراضي .. أو حمله على البوح له .. ولكن دون جدوى .. فقد كان يقابل استفساراته بالصمت واللامبلاه .. وفي ظهيرة يوم السبت كان عبد الراضي يحتل خلف المدفع الماكينه .. كالعادة .. في دور حراسته النهارية اليومية .. وهاله ما رأى على الضفة الشرقية للقناة .. أسراب من الفتيات يرتدين البيكيني .. يلهون .. يتمازحن .. مع الجنود الإسرائليين .. راح يراقب المنظر في غل وغضب .. وهم يلهون ويلعبون ويتغازلون على أرضه الطاهرة سيناء .. بلا خجل وبلا حياء .. فار الدم في عروقه .. ولكنه تماسك .. ظهر الصوت الذي كان يخاطبه ليلا .. وراح ينادي ويصرخ ..
ــ يا ولد عبد الراضي .. قريب سنصل إلى بلدتكم ، ونجعل أمك واختك يلبسن هكذا .. بالبكيني ..
التفت إليه من الضفة الشرقية باقي النساء والجنود .. ضجوا بالضحك ساخرين بعد أن ترجم لهم رفاقهم ما قيل .. راحوا ينادون على عبد الراضي بأصوات ماجنة لاهية ..
لم يشعر عبد الراضي بنفسه وهو يقبض بأصبعه السبابة على زناد مدفع الماكينة كالمشلول أو المتيبس .. لتنطلق دفعة نيران طويلة راحت تخترق أجساد الجنود والنساء .. وارتفع الصياح والصراخ .. وعم الهلع والرعب بينهم وهم يتساقطون .. أما عبد الراضي فقد كان قلبه يزغرد من السعادة .. والطلقات تزأر والمدفع يرتعش تحت بنانه كأنه يثور .. وقهقهته تجلجل ملئ فيه كأنه مارد جبار .
ـــــــــــــــــــــ
__________________
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
الإجراءات : (من قرأ ؟)
لم يشاهد الموضوع أي عضو حتى الأن.
مواقع النشر (المفضلة)