صالـــح




كان الجندي صالح يختفي كثيرا من الموقع .. خاصة في ساعات الصباح الأولى قبل أن ينسج الضوء خيوطه وينتشر .. أو بعد غروب الشمس واختفائها تماما .. كان هذا الأمر يقلقني ويحيرني .. فأنا كقائد لهذه الفصيلة المشاة مُكلف باحتلال الموقع الدفاعي بمواجهه تصل إلى نصف كيلو متر .. يستند موقعي بكتفه الأيمن على حدود جزيرة الفرسان في منطقة نمرة 6 شرق مدينة الإسماعيلية .. وكان شاطئ نادي هيئة قناة السويس ونادي الشاطئ لضباط القوات المسلحة داخل نطاق مسئولية الفصيلة .. ولكن لم يكن مخصص لاحتلالها جنود أو أسلحة .. نظرا لانبساط الشاطئ وتعرضه لنظر ونيران العدو الموجود في تبة لسان التمساح المرتفعة ، والمسيطرة على مدخل بحيرة التمساح في نقطة تلاقيها مع مجرى قناة السويس .. كان لسان التمساح هذا عبارة عن مرتفع من الرمال ناتج من أعمال تطهير القناة السابقة .. يختفي خلفه دبابات وهاونات للعدو .. وكانت تهدد أي تواجد لقواتنا في منطقة الشواطئ ، أو منطقة أشجار الغابات غربها أو في جزيرة الفرسان .. وذلك نظرا لارتفاعها عن منسوب الأرض التي نحتلها .. كان صالح شابا ينتمي إلى أعراب شمال سيناء المحتلة في ذلك الوقت .. وكان شديد الذكاء ويتمتع بقدرات ومهارات متعددة .. سريع التعلم .. لذا كنت أعتبره مثل ورقة الجوكر في الكوتشينة .. فكنت أكلفه بمختلف المهام في الفصيلة ، والواجبات الخاصة ، والتي تحتاج إلى قدرات خاصة .. فإذا شغـُرَت وظيفة رئيسية ، كرامي الرشاش أو القاذف ر.ب.ج المضاد للدبابات ، أو القناص بسبب أجازة ميدانية أو حضور دورة تدريبية في معاهد القوات المسلحة المركزية .. كنت أكلفه لشغل هذه الوظيفة بصفة مؤقتة لحين عودة صاحبها .. وعند اختيار أفراد لتنفيذ داورية استطلاع أو داورية اقتحام داخل صفوف العدو كان إسمه أول ما يتبادر لذهني .. كان ينفذ المهام التي يكلف بها على أكمل وجه .. كان عيبه الوحيد .. هذا الاختفاء الغير مبرر في توقيتات بعينها ، ولم أنجح أبدا في حمله على تفسير سبب هذا الاختفاء .. كان محبوبا من جميع زملائه .. لحسن معشره .. وخدماته العديدة التي يقدمها لهم .. بل كانت تأتي المبادرة منه في أغلب الأحيان لتقديم العون لزميل .. أو انتشاله من ورطة ألمت به .
في أوقات اختفائه كنت أبحث عنه دون جدوى .. فأهدد وأتوعد حين يصيبني اليأس ، وأقسم على مسمع من أفراد الفصيلة أنني سوف أقدمه للمحاكمة العسكرية هذه المرة بتهمة الغياب عن الموقع في الميدان .. ويكون قد وصل بي الحال إلى حد الإصرار ، والتمسك بقراري .. حازما أمري على تنفيذه .. ولكن سرعان ما كان يظهر صالح .. فأجده أمامي .. متعللا عن غيابه بأسباب واهية أعلم تماما أنها مختلقة .. ولكني كنت أتظاهر بتصديقها وقبولها ، وتسير الأمور بعد ذلك سيرها الطبيعي ، إلى أن يعاود الاختفاء .. وأعاود أنا البحث .
في أحد الأيام .. بعد غروب الشمس .. وبعد أن أرخى الليل سدوله ، وساد الظلام التام ، وانعدمت الرؤيه .. إخترق أذني صوت دانة دبابة .. خرجت من ملجأى الميداني ، وانضممت إلى أفراد الفصيلة التي كانت قد احتلت الخندق والمرابض كالعادة عند سماع صوت انفجار من جانب العدو .. وانتظرنا أن تتوالى أصوات الانفجارات ، وقذائف الدبابات كما تعودنا من العدو .. ولكن لم يحدث شيء .. خيم السكون .. وساد الصمت .. ومضي وقت طويل لم يعاود العدو الاشتباك فيه .. تعجبت لهذا الأمر .. ورجحت أنه ربما طلقة دبابة خرجت من جانب العدو على سبيل الخطأ أو الإهمال .. أصدرت تعليماتي لأفراد الفصيلة بإنهاء الاحتلال والعودة إلى حالة الاستعداد العادية .. ولكن كالعادة سألت عن صالح .. لم يكن موجودا .. كان الوقت ليلا وربما يكون في مكان ما وسيظهر كعادته .. لذا لم أهتم كثيرا فالمهم سلامة الأفراد .. وربما فاجأته نيران العدو فانتظر إلى أن يتأكد من انتهائها تماما ليستطيع العودة سالما .. ذهبت للنوم من شدة التعب والإرهاق .. فاليوم كان مشحونا منذ بدايته .. مع أول استيقاظي .. كان كل همي السؤال عن صالح .. لم يفدني أي من زملائه فلم يره أحد .. تملكني العجب .. لم يكن غيابه يطول بهذا الشكل حتى يشمل الليل كله .. مر يومان ولم يظهر .. اشتدت حيرتي .. أرسلت للقيادة إشارة أبلغهم فيها عن غياب الجندي صالح ، فالأمر قد زاد عن حده .
قرب فجر أحد الأيام ، وأنا أقوم بدورة المرور على الخدمات للتأكد من انتظامها .. شد انتباهي جمعا من الكلاب الضالة تتجمع حول شيئ غير واضح المعالم على شاطيء النادي .. استعنت بنظارة الميدان المكبرة .. هالني ما رأيت .. أشلاء آدمية .. كانت عبارة عن النصف السفلي بالساقين والقدمين .. كانت منتفخة وعارية تماما إلا من بعض بقايا أثمال متهرئة غير واضحة المعالم .. تسللت ومعي بعض الأفراد .. مستغلا بعض خيوط الظلام .. قبل أن ينبلج الصباح تماما .. وصلنا إلى مكان الأشلاء زحفا .. طردنا الكلاب الضالة .. التي راحت تراقبنا من مسافة قريبة وسط نباحها وعويلها .. اعتراضا علي استيلائنا علي صيدهم الثمين .. لففنا الأشلاء الآدمية في بطانية .. وعدنا إلى داخل الموقع .. كانت أشلاء مجهولة المعالم والهوية .. انتظرت أن تظهر باقي الأجزاء والرأس .. أو يسفر عنها بحثنا المتواصل بالنظارات المعظمة وأجهزة المراقبة الدقيقة .. على مساحة الشاطئ بالكامل .. زرت المواقع المجاورة والمطلة على القناة أو البحيرة .. ولكن دون جدوى .. لم يسفر البحث عن شيء .. أرسلت تقريرا للقيادة بالعثور على أجزاء آدمية مجهولة الهوية فصدرت التعليمات بنقلها لمقر القيادة لفحصها ومعاينتها .. علمت بعد ذلك أن الفحص والمعاينة لم تسفرا عن شيء .. ولم تؤد إلى معلومة تفيد عن هوية الجثة أو بقايا الجثة .. فتم دفنها في مقابر الشهداء مع المجهولي الهوية .
لا أدري لماذا كنت أقرن هذه الأشلاء بصالح .. كان إحساسا عميقا يقودني إالى هذا الإقران .. ولكن سرعان ما كان يزول .
مضت الأيام وتم شطب صالح من القوة بجريمة تعدي عدد أيام الغياب عن الحد الأقصى .. وأدرج في كشوف الهاربين من خدمة الميدان .. فكرت أن أبحث عنه بكل الوسائل لإنقاذه من المحاكمة العسكرية .. كلفت عبد الله .. بلدياته من شمال سيناء .. بالبحث عنه لدى أقربائه المهجرين في محافظة الشرقية لإقناعه بالعودة قبل يستفحل الجرم .. عاد الجندي عبد الله ومعه علامة استفهام أكبر .. فذويه لم يروه منذ فترة طويلة .. تعادل مدة غيابه عن الموقع .. لا أدري لماذا شددت الخناق على عبد الله لمعرفة الأماكن التي كان يرتادها أثناء غياباته المتقطعة داخل الموقع صباحا ومساءا .. وبعد إصرار وإلحاح مني .. فاجأني عبد الله بأن صالحا كان يتسلل إلى شاطئ النادي ليلا ويخفي جوبية لصيد السمك وبها الطعم .. وقبل بزوغ الصبح كان يتسلل مرة أخرى ليجلبها عامرة بالأسماك من مختلف الأصناف والأنواع ، خاصة البوري والدنيس والبلطي .. كان يطهيها لزملائه في الفصيلة .. وكانوا بدورهم يحفظون السر .. حتى لا يحرموا من هذا الطعام اليومي .. تذكرت كيف خرجت دانة الدبابة من خلف لسان التمساح في اتجاه الشاطئ .. وتخيلتها تخترق جسده وتقسمه إلى نصفين .. لذلك لم يستمر القصف بعد هذه الدانة كالعادة .. ولكن من يصدق أنها كانت ضد صالح .....