- الإهدائات >> |
رمضان وموسم التغيير
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
رمضان موسمالتغيير عندما نتأمل في هذه الفريضة بكل ما فيها من أركان وشروط صحتها ومن آدابوخصائص كمالها نرى : كم هي الفرصة عظيمة وكم هي الغنيمة ميسورة ، وكم ينبغي لنا أنيكون لنا من شهرنا وفريضتنا ما يكون له أثر ممتد وتغيير حقيقي ، لا مجرد سحابة صيفعابرة أو تغييرات شكلية ظاهرة ؛ لأن الحق جل وعلا ربط هذا بسنته الماضية فقالسبحانه وتعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَابِأَنْفُسِهِمْ } [ الرعد: من الآية11].
فرصة التغيير في رمضان عظيمة منوجوه عدة :
أولا: أطول مدة يتوالى فيها التغيير ويستمر على مدى شهر كامل ثلاثينيوماً بلياليها .
ثانياً: تغيير يتناول الإنسان في أعماقه وباطنه وداخله تغيرافي إخلاصه وإيمانه ، مراقبته تغير فيما يؤمله من ثواب الله في أمور يبذلها ، وأعماليجد فيها تغير فيما يحصل له من طهارة قلب ، وزكاة نفس .. كما أنه كذلك تغير فيالظاهر بأعماله وجوارحه .. ألا ترى كيف يغض البصر ، ويكفّ اللسان ، ويمنع الأذى !
ثم هو أيضا تغيير من جهة ثالثة: لا يقتصر على الفرد نفسه أو عليه وحده ! بل هو يعم الأمة كلها فليس المتغير أو المغير منفرداً يشعر بوحشة أو غربة ، بل كلالأمة في مجموعها تعلن تغييرها امتثالا لأمر ربها ، بل وتبدل نظام حياتها كلهاستجابة لهذه الفريضة والشريعة .
ثم من جهة رابعة: نرى هذا التغيير كيف يكونمتسقاً وشاملاً ؛ حتى لأمور الحياة الاعتيادية من طعام وشراب ومنام ، ونقول هنا : إن لم يخرج المسلم من هذه المدرسة التي فيها هذا العمق في التغيير بتغيير حقيقييبقى دائما أثره في نفسه ، ويحوله من حال إلى حال ؛ فإن ذلك دليل ضعف وآية عجز ، بلربما تكون سببا من أسباب النظر إلى أدائنا للعبادات ، ومعرفتنا بحقائقها ، وإدراكنالمقاصدها ، وتحققنا بمضامينها الإيمانية والتربوية .
ولذلك نقف هذه الوقفاتمع التغيير الذي يحصل لنا في واقع هذا الشهر الكريم والعبادة العظيمة ؛ لنرى كيفكنا من قبل وهل سنعود من بعد إلى ما كنا عليه من قبل .. لنرى كيف يمكن أن يكون هذاالموسم الرباني الإيماني العبادي الوحدوي الاجتماعي طريقاً عظيماً ، وسبباً موصلاًإلى التعرض لسنة الله بتغيير أحوال الأمة أفراداً ومجتمعاً لتتعرض حينئذ لرحمة الله، ولتستحق حينئذ تنزل نصر الله ، وليكون لها ارتباط بدين الله ، وتوحّد على شرعالله ، وقدرة على مواجهة أعداء الله عز وجل ؛ فإننا في هذا الزمان نشعر بضعف الفرقةوبذلة البعد عن دين الله سبحانه وتعالى وبالهوان على الناس من أثر هذا البعد عنمنهج الله سبحانه وتعالى ..
لننظر إليك - أيها الصائم - لتنظر إلى نفسك أيضا، وتتأمل في هذه الصور التغييرية :
أولا: الصور التغييرية في نفس وقلب المؤمن .
ألست اليوم أعظم إيمانا وأثبت يقينا ألست اليوم تستشعر معرفة الله سبحانهوتعالى على الوجع الأكمل والأصح والأتم .. ألست تدرك اليوم أنك أعظم خوفا من اللهوأشد حياء منه ، وأكثر مراقبة له ، وأشد تحرياً في الإخلاص له .
إن هذاالمعنى الذي ينشئه هذا الصيام في النفس هو النموذج الذي ينبغي أن نرقى إليه هو تلكالوصية التي أوصى بها نبينا صلى الله عليه وسلم ابن عباس - وهو غلام صغير مازال فيأول مقتبل عمره - ليعلمنا عليه الصلاة والسلام المهمات الكبرى ، والحقائق العظمىالتي ينبغي أن نستحضرها في قلوبنا وعقولنا : ( يا بني إني أعلمك كلمات : احفظ اللهيحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ... تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، إذااستعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلابشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبهالله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف ) .. ألسنا اليوم نشعر أننا أقرب إلى حفظ اللهعز وجل ، وأننا أكثر تعرفا إليه في رخائنا من أثر هذه العبادة والفريضة !
أليستالقلوب أكثر حياة ، والنفوس أعظم شفافية ! أليس الإقبال على الخير عظيما ! أليسالخوف من الشر والمعصية كبيراً ! ألسنا نشعر بدفقات إيمانية وحياة روحية مختلفة ! أليس هذا التغيير نشعر بآثاره سكينة في نفوسنا ، طمأنينة في قلوبنا لذة ، وحلاوة فيعباداتنا أنساً وتذوقاً لمناجاة ربنا .. ألسنا نشعر بذلك كله ألا نتوق حينئذ أننجعل هذا التغيير حقيقياً يبقى في النفس ويغرس في القلب ! أليس ذلك إذا صدقنا فيهمع الله تحققت لنا كل وعود الله سبحانه وتعالى فتتحقق في قلوبنا الخشية بمعرفته.. { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ فاطر: منالآية28].
وتتحقق لنا آثار معرفتنا بالله سبحانه وتعالى .. فمن كان باللهأعرف كان من الله أخوف ، ومن عرف الله صفا له العيش ، وطابت له لحياة ، وهابه كلشيء ، وذهب عنه خوف المخلوقين ، وأنس بالله سبحانه وتعالى .. ألسنا نرى ظلالاً منذلك ، وآثاراً منه ! ألا نشعر بهذا الحياء الذي نستحييه من الله سبحانه وتعالى فيشهرنا ، وصيامنا أن نجرحه ، وأن نخرق صومنا ، وأن نخرق ستر الله عز وجل لنا ، وهذاالصوم الذي أخبر عنه عليه الصلاة والسلام بأنه جنة ، وبأنه حصانة .. بأنه مناعةنمتنع بها عن مثل هذه المنكرات كما قال عليه الصلاة والسلام : ( استحيوا من الله حقالحياء ، قالوا: والله يا رسول الله إنا لنستحيي من الله ! قال: ليس ذاك ولكنالحياء أن تحفظ البطن والفرج - كما أخبر عليه الصلاة والسلام وكذلك قال في آخره - أن تذكر الموت والبلى ) رواه الترمذي بسند صحيح.
عندما نتأمل هذه المعانييفيض إلينا أيضاً معنى الإخلاص ، الذي أخبرنا الله عز وجل عنه في الحديث القدسي : ( إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ) فنحن نتعود أن لا ننظر إلى الناس ، وأن لا نلتفتإليهم ، وأن لا نصيخ أسماعنا انتظارا لمدحهم ، وأن لا ننتظر شكرهم أو ثناءهم أوعطاءهم وإنما كل قلوبنا وكل جوارحنا وكل آمالنا وكل طموحاتنا معلقة بأن ننال رحمةالله ، وأن يمنّ الله علينا بقبول أعمالنا ، وأن يمنّ الله سبحانه وتعالى بمغفرةذنوبنا .. أليس ذلك جديراً بأن نلتفت إلى تحقيق ذلك في سائر أحوالنا ، وفي كل أيامحياتنا .. فلا نكون - حينئذ - كما هي أحوالنا في غير ذلك ننظر يميناً ويساراً ،ونبحث عن ثناء هنا أو عن أجر هناك ، أو نعلق آمالنا بذاك أو بهذه الأحوال والأوضاع، أو ترجف قلوبنا خوفاً من هذا العدو أو ذاك ، ولا نشعر بهذا التعلق الإيماني !
ولو نظرنا إلى جانب آخر - والجوانب كثيرة - وهو :
جانب الاستقامة علىالطاعة
كيف أنت فيها أيها الصائم اليوم ؟ ألست اليوم مبادراً إلى بيوت الله تغذالخطا إليها ! ألست تجد أثر ذلك وأنت تخف وترى في نفسك ميلاً ومحبة ؛ بل - وشوقاولهفة - لذلك ! ألست تبادر إلى الصفوف الأولى ! ألست تكثر من النوافل والصلوات ! ألست تكثر من الذكر والتلاوات ! ألست تكثر من التضرع والدعوات ! ألست مستقيماً علىأمر الله عز وجل ، حريصا على الإتيان بالأوامر واجتناب النواهي .. { إِنَّالَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُالْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وأبشروا بِالْجَنَّةِ الَّتِيكُنْتُمْ تُوعَدُونَ } [ فصلت:30].
ألسنا نستشعر أننا نقرب من هذه الآية ،وكأننا نتأمل أو نرى أن في أحوالنا ما قد يعرضنا لنيل الوعد الذي وعد الله سبحانهوتعالى فيها بعدم الخوف ، وبعدم الحزن ، وباستحقاق الجنة بشارة من الله سبحانهوتعالى .. ألسنا نستحضر ذلك القول الجامع العظيم الذي أوصى به النبي صلى الله عليهوسلم سفيان بن عبد الله الثقفي ، يوم جاء يريد وصية واحدة من سيد الخلق صلى اللهعليه وسلم يلخص له فيها أهم وكل ما يحتاج إليه في هذه الحياة فقال له : ( قل آمنتبالله ثم استقم ) .
وذكرنا الأولى في هذه المعاني الإيمانية التي تنتابنفوسنا وقلوبنا ( واستقم ) فنحن في هذا الشهر أعظم استقامة ، وأشد حرصاً على موافقةالأمر ، ومجانبة النهي .. وهذا كما هو معروف سر الأمن والأمان النفسي ، وسر السلامةالبدنية والبركة الربانية التي تحلّ بالعبد إذا جاءته هذه الاستقامة في دنياه ، بلإن هذه الاستقامة هي على طريق الله عز وجل تفضي إلى الاستقامة على الصراط يومالقيامة ..
ويربط ابن القيم ربطاً يعلق قلوبنا بهذا المعنى ، ويهيجناللانتباه والالتفات إليه .. فيقول : " من هدي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيمالذي أرسل به رسله ، وأنزل به كتبه هدي هناك - أي يوم القيامة - إلى الصراطالمستقيم الموصل إلى جنته ودار ثوابه ، وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراطالذي نصبه لعباده في هذه الدار يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم ،فيكون سيره على ذاك الصراط .. ولينظر العبد للشهوات والشبهات التي تعيقه عن سيره ؛فإنها الكلاليب التي بجنبي الصراط تتخطفه وتعوقه عن المرور عليه ؛ فإن كثرت هنا - يعني إن كثرت في الدنيا - وقويت فكذا هناك . .{ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍلِلْعَبِيدِ } [ فصلت: من الآية46]. " .
أليس هذا جديرا بأن نلتفت إلى هذاالمعنى العظيم والتقوى التي هي ثمرة الصيام باتقاء عذاب الله فعلا للمأمورات وتركاللمنهيات ذلك هو الذي يجعلنا أولياء لله لأنه سبحانه وتعالى قال في وصف الأولياء: { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [ يونس:63 ].
ومرة أخرى يأتيناهذين المعنيين معنى الإيمان والحقائق الإيمانية في القلب والنفس ، ومعنى آثارها فياستقامة السلوك ، وذلك ما نستشعره ونرى أثره في التغيير ..
ثم انظر كذلكإلى معنى مهم آخر ذلك الصبر والمصابرة والمرابطة على طاعة الله ، وعن معصية الله عزوجل الصبر الذي نجزع في غير هذه الفريضة ، فلا نكاد نقوى على تحمل شيء مما يتعلقبالطاعات ، أو نبذل شيئا مما تحشرج به النفس ، أو يضيق به الصدر ، أو ربما لا نصبرعن تلك الشهوات والإغراءات .. نحن في هذا الشهر وهو شهر الصبر.. { إِنَّمَايُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر: من الآية10] .
قال أهل التفسير : " الصابرون الصائمون " ، إذا فهذا الصبر الذي نحن فيه هوصبر على طاعة الله ، وصبر عن محارم الله ، وصبر على بلاء الله ، وما تجري به أقدارالله .. إنه ثروة عظيمة ، وتغيير مهم .. إن كثيراً من أسباب ضعفنا هو قلة صبرنا ،وكثرة جزعنا .. نحن نريد مراتب عالية ، ونريد أعطيات ربانية ، ومنحاً إلهية دون أنيكون هناك شيء من جهد ولا عناء ولا مشقة ولا تحمل .. وذلك ما لا يتفق مع السننالعادية ؛ فضلا عن الربانية !
ولذلك نقول هذا الصبر الذي نتذرع به والذينتدرع به كذلك في هذه الفريضة .. فنحن نرى نفوسنا به قوية ، ونرى أنها قد استقرتعليه وثبت فيها ، ينبغي أن يكون لنا منه أيضاً نصيب ؛ لننال كل ذلك الأجر العظيمالوارد في القرآن والسنة لهذا الصبر وثمراته : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِرَاجِعُونَ } [ البقرة: 155, 156].
و ( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير إنأصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له وليس ذلك لأحدإلا للمؤمن ) ، وهذا حديث النبي عليه الصلاة والسلام في أمر يمر بنا كثيراً : ( واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيراً ، وأن النصر مع الصبر ، وأن الفرج معالكرب ، وأن مع العسر يسراً ) رواه الإمام أحمد بسند صحيح.
حديث عظيم عندمانصبر الآن في هذه الميادين صبراً ، لا نقول : إنه ليس عظيماً لكنه صبر يعلّم ويدرّبلما هو أعظم منه ، وكم هي المآسي والمشكلات والمصائب التي تحيط بأمتنا .. فلا تكادتلقى يقيناً راسخاً ، ولا صدراً واسعاً ، ولا ثقة بالله عظيمة ، بل كثيراً ما يكونجزع وخوف ، وهلع واضطراب وحيرة وشك .. بل - وعياذاً بالله - ربما يبلغ الارتدادونحو ذلك .. أليس من حصافة المؤمن أن ينظر إلى هذا الصبر الذي أفاء الله عز وجلعليه في الصوم ، فيجعله غنيمة له ؛ لأن الصبر لله غناء ، والصبر بالله بقاء ،والصبر في الله بلاء ، والصبر مع الله وفاء ، والصبر عن الله جفاء ، والصبر علىالطلب عنوان الظفر ، والصبر في المحن عنوان الفرج .. ( وما أعطي أحد عطاء خير منالصبر ) كما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم .
ألا نرى صوراً كثيرة تتغير فيواقعنا .. فإذا النفوس تسخوا فتمتد الأيدي بالبذل والإنفاق غير عابئة بشيء ممايلامس هذه النفوس من شح وبخل ! بل تنظر إلى أعظم الأجر وأجزل المثوبة التي تتأملها، ولتنظر إلى رغبتها وأملها في الوقاية من عذاب الله ( فليتقين أحدكم النار ولو بشقتمرة ) .. (من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل ) أليس هذاتغيراً واضحاً لا نراه في فرد بل نراه في مجموع الأمة ! أليست هذه هي أمة الإنفاقوالتواصل َ أليست هي أمة التراحم والتكافل ! ما بالنا تغيب هذه الصور ، ثم تظهركأنما هي موسم تجاري ، أو موسم إعلامي له مدة ثم تنتهي صلاحيته .. هل نحن لا نتحركإلا بهذا فحسب ، وإن كانت حكمة الله ورحمته تحرك القلوب والنفوس والمشاعر بما يختصالله به عز وجل الأزمان زماناً دون زمان ، أو الأمكنة مكاناً دون مكان .. لكن ذلكينبغي أن يبقى له أثره .
ونحن نشعر كذلك بأمر مهم وهو :
أمر المواساةوأمر التفقد والصلة وإحياء معاني الأخوة .. فهذا تغيير مهم الأمة اليوم في أمسالحاجة إليه وقد تقطعت الأواصر ، وجفت العلاقات ، وتنافرت القلوب ، واختلفت الآراءإلا من رحم الله .. أفلا نرى نحن اليوم كيف تمتد هذه الجسور ، وكيف تبنى هذه الصلات، وكيف تتدفق تلك المشاعر .. وإذ بنا نشعر أننا أقرب ما نكون إلى أمة الإسلامالواحدة .. إلى أخوة الإسلام الجامعة .. إلى رابطة الإيمان الموثقة .. نحن نشعربهذا اليوم في شهر رمضان مع فريضة الصيام أغنياء وفقراء ، أقوياء وضعفاء ، حكاماومحكومين ، رعاة ورعية ، علماء وطلاب علم .. كل ذلك نرى فيه نوعا من التداخلوالامتزاج والتقارب والتراحم .. ذلك هو المثل الذي ضربه النبي عليه الصلاة والسلامبصور شتى في أحاديث مختلفة : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثلالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) ( المؤمنللمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ) ، ( المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى ) وغير ذلك مما ضربه عليه الصلاة والسلام من أمثلة التقارب والتآلف والتلاحم والتراص، الذي ينبغي أن يكون أعظم ما نحرص عليه في أوقاتنا هذه مع تربص أعدائنا وكيدهم ،وشدة بطشهم بدلا من أن نفترق:
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً *** وإذا افترقنتكسرت آحادا
والعفة عن محارم الله
معلم أيضاً نلمحه ، وهو واضح في شأنالتقوى وآثارها ، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهم إني أسألك الهدىوالتقى والعفاف والغنى ) ، وقال الماوردي رحمه الله: " إن دين المرء يفضي إلى الستروالعفاف ، ويؤدي إلى القناعة والكفاف " .
هذه بعض المعالم على مستواناالفردي .. فكيف بنا لا نحرص على أن يكون ذلك تغييراً حقيقياً لا مظهريا ، وأن يكونأدوم ما يكون لا أن يكون مؤقتا بهذا الزمان وهذه الأيام المعدودة .. نسأل اللهسبحانه وتعالى أن يمنّ علينا بالإيمان الكامل ، واليقين الراسخ ، ومحبة الطاعات ،والبعد عن المنكرات .. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الخطبة الثانية
أما بعدأيها الأخوة المؤمنون :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظمزاد يقدم به العبد على مولاه ، وإن هذه العبد وهذاالموسم منبع التقوى الحقيقي .. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَىالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة:183].
ونذكرمرة أخرى بقضية التغيير لمسناها في أعماق نفوسنا وقلوبنا ، ورأيناها في أعمالسلوكنا وجوارحنا ، وأكدناها في علاقاتنا وصلاتنا .. ولو مضينا لوجدنا أن جمهورالأمة أيضا - أو صورة الأمة أيضا - تتغير فهي :
تعلن أن ولاءها لله ولرسوله صلىالله عليه وسلم
تعلن أنها تغير واقعها استجابة لأمر الله .. أنها تغير صور وصيغوأساليب حياتها وفق مراد الله عز وجل .. فنحن نرى كيف تغير الأمة كلها أوقات طعامهاوشرابها ، ومنامها وأوقات أعمالها ، ودورة اقتصادها .. وكل شيء في حياتها ؛ لأنه قدجاء شهر الصوم ؛ لأنها جاءت هذه الفريضة .. وهذا يدلنا على قضية أساسية في كل هذهالفرائض التعبدية .. إنها إظهار شعائر التعبد لله عز وجل ، عندما تمضي جموع الأمةإلى البقاع المقدسة في حج أو عمرة تلبس لباساً ، وتتحرك حركة ، وتؤدي مناسك ليسفيها إلا ما جاء عن الله ، وما جاء عن رسوله عليه الصلاة والسلام ..
عندما يغدواالناس ويغدون إلى بيوت الله ليؤدوا الصلاة خمس مرات في اليوم والليلة .. إنه إعلانوإظهار أن هذه أمة قرآن وسنة أنها تتحرك تقدما وتأخراً ، وإقداماً وإحجاماً ،وفعلاً وتركاً في كل صور الحياة وفي كل ميادينها وفق أمر الله عز وجل : { إِنَّهَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء:92 ].
{ وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } [ المؤمنون: منالآية52].
فإذا وحدة هذه الأمة على عبادة الله وتقواه إنما تتغير أحوالهابهذا كأنما هي تسير عن بعد لا يرى الناس شيئا فجأة إذا بالأمة في اليوم التالي - عندما جاء رمضان - يتغير فيها كل شيء .. أفترضى أن تكون في تغيير شكلي ظاهري ثم لاتغير كل واقعها وسائر أحوالها ؟!
وأهم شيء مواقفها ومواجهتها لظروفها لتجعلهاوفق أمر الله عز وجل
إن الصوم ليست حقيقته في مجرد هذا الطعام والشراب الذينغيره من وقت لوقت أو نؤجله من وقت لوقت ( رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوعوالعطش ورب قائم ليس له من قيامه إلا التعب والسهر ) .. ( من لم يدع قول الزوروالعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه )
إن الغاية أعمق وإن الذيينتاب الأمة يدل على هذا المعنى العظيم أنها تغير بحسب أمر الله وهدي رسوله عليهالصلاة والسلام ثم نرى أيضا صورة الوحدة العامة للأمة التي تصوم من شرق إلى غرب فيوقت واحد ، وهيأة واحدة ، وسمة واحدة ، وأحكام واحدة ، ومتابعة واحدة لرسول اللهعليه الصلاة والسلام .. هذه معان كثيرة وغيرها أيضا كثير .. لو تأملنا لفقهنا أنهذه الفرائض إنما جاءت ليكون لها في نفوس الأفراد وعلى مستوى الأمة ما يسوقها إلىالله عز وجل ، وما يلزمها نهجه ، وما يعصمها عن هذه الأهواء والشهوات والشبهاتالمحيطة بها ؛ لتكون حينئذ أقرب إلى الله ، ولتكون مستحقة لتنزل نصر الله عز وجل .
ونحن في هذه الأوقات العصيبة ونحن نرى استكبار الكفر وطغيانه ، ونحن نرىما يصب على هذه الأمة من مؤامرات سياسية ، ومحاصرات اقتصادية ، واستعدادات عسكرية ،وغزو فكري ، وانحلال خلقي .. نرى كم نحن في حاجة إلى أن نصدق مع الله عز وجل ، وأننصدق في تغيير واقعنا وتغيير أحوالنا لتتحقق السنة { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُمَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [ الرعد: من الآية11] .. { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍحَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [ لأنفال: من الآية53].
ما أصابهذا البلاء ، ولا حل هذا العناء ، ولا تعاظمت تلك الظلمات ، ولا تكاثرت تلكالمشكلات إلا بهذه السنة يوم كان التغيير بعيداً عن منهج الله ، ويوم كان الإعراضعن هذا المنهج يأخذ أشواطاً وأنماطاً في صور الحكم الذي تحكم به مجتمعات إسلاميةكثيرة ، وفي معالم الحياة العامة التي يجاهر فيها بالكفر أو يجاهر فيها بالمعاصيوالكبائر ، وفي صور كثيرة تصل إلى الفرد نفسه في قوله ، بل وفي نيته فيما نراه منصور كثيرة تحتاج من في هذا الشهر ، ونحن نتفيأ ظلال الإيمان ، ونحن نستروح نسماتاليقين ، ونحن نتذوق لذة العبادات ، ونحن نقبل على الله عز وجل مستقيمين على أمرهحذرين وجلين خائفين من كل ما نجرح به عبادتنا أو صومنا أو نخالف به أمر ربنا .. ونحن نستشعر أعظم استشعار مراقبة الله - جل وعلا - والحياء منه ، والرجاء في ثوابهوالخوف من عقابه .. كل هذه المعاني ليست في فرد بل في مجموع الأمة وما يقام في هذهالفريضة وهذا الزمان من كثرة تلاوة وذكر وتضرع وصلاة ، ثم بعد ذلك كله نخرج صفراليدين ، ونخرج بدون ثمرة ، ونخرج بكسب ينتهي مع آخر يوم أي تاجر هذا الذي يعظمربحه وفي آخر يوم الموسم يكون هذا الربح قد ذهب بدداً ، وتفرق سداً !
أين هويقول قد انتهى الموسم إن أكثر بل كل الناس إنما يغتنمون المواسم ؛ ليكون لهم منفيئها ومن عطائها ، ومن ربحها ما يدوم على مدى أيامه .. بل ربما يجعلون الربح كلهفي هذه المواسم لعله إذا عظم أن يكون مغرياً لهم عن غيرها من الأوقات .. فما بالنانحن لا نتأمل في هذا دعوة خالصة لكي نتأمل في تغييرنا على مستوانا الفردي لما لايكون بعد رمضان تغير ولو بنسبة فيتغير حال هذا ، وذاك وتتغير العلائق والروابطوتتغير هذه الأساليب العملية لم لا يكون إنفاق إلا في رمضان ، لم لا يكون تواصل إلافي رمضان ، لم لا تكون المساجد ملأى إلا في رمضان !
ثم انظر إلى آخر ما أنبهعليه : لِمَ يكون هذا التغيير مؤقتاً أو لم يكون ضعيفا ؛ لأن عوارضه ونواقضه كثيرة .. فنحن نرى أن كل ما ذكرناه بعض أحوال مجتمعاتنا يصد عنه ، ويمنع منه ، وينأى بناعنه .. فنحن نرى كيف يكثر الصفق في الأسواق ، وكيف يكثر السهر بالليل في غير مرضاةالله ، وكيف يعظم نوم النائمين حتى إننا وكل مرة نقول ذلك نبدأ الشهر في الجمعة علىوجه الخصوص والخطيب لا يرقى المنبر إلا والمسجد ممتلئ فإذا جاءت الجمعة الثانية - وهذا مصداقها في يومنا - هذا كانت الصفوف أقل ، فإذا جئت إلى آخر جمعة ؛ فإن الإماميكبر للصلاة ومازال كثير من الناس لم يشهدوا الجمعة ، ولم يأتوا إليها .. أين هذا ؛لأننا عكسنا وخالفنا في بعض صور حياتنا ما هو من هدي وما هو من سنة وما هو من فريضةوشريعة ربنا.
[SIGPIC][/SIGPIC]
اللهم بلغنا رمضان
اللهم بلغنا رمضان
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
الإجراءات : (من قرأ ؟)
لم يشاهد الموضوع أي عضو حتى الأن.
مواقع النشر (المفضلة)