- الإهدائات >> |
من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم
أما بعد الصلاة والسلام على الحبيب الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، فمقصد هذا البحث المقصر بعد الاستمتاع والتلذذ بسيرة سيد البشر، هو محاولة الاتباع والاقتفاء، فهذا العبد الكامل صلى الله عليه وسلم في كل نفس، كان ملتقى الكمالات الشكلية والمضمونية على اختلافها، فقد صاغه ربه سبحانه وتعالى صياغة خاصة، وما هذه الدرر النفيسة من مكارم الاخلاق وطيب السجايا الا صناعة ربانية شاء بها المولى سبحانه وتعالى اكرام البشرية، بل الانس والجن والحيوان والجماد والنبات، ثم التمثيل لنمط مطلق من الخير المطلق.
لقد كانت سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم منارة هادية لكل عشاق الكمال في الوجود على اختلاف الأزمنة والامكنة، ثم هدفا اسمى ومرتقى لكل اصحاب التطلعات السامية والاعناق المشرئبة نحو طمأنينة النفس واصلاح الارض وحسن التوجه للسماء.ونحن اذ نظهر عجزنا عن الاحاطة بذلك الخلق المحمدي الكريم، لا نرى بداً من النمذجة والتدليل والاشارة الى مجموعة مرويات ومقصوصات ثبتت صحتها من ينابيع صافية، سعيا للاقتداء وتقفيا للأثر وصرفا للأذهان عما سواها.ولقد صدق الله العظيم في كتابه الكريم: “وإنك لعلى خلق عظيم”
ولقد اصابت وأحسنت سيدتنا عائشة رضي الله عنها عندما قالت:“كان خلقه القرآن”.
الرفق والتواضع
عن أنس بن مالك قال: “كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) اذا فقد الرجل من اخوانه ثلاثة أيام سأل عنه، فإن كان غائبا دعا له، وان كان شاهدا زاره، وان كان مريضا عاده”.
عن زيد بن ثابت قال: “ان النبي (صلى الله عليه وسلم) كنا اذا جلسنا اليه ان اخذنا بحديث في ذكر الآخرة أخذ معنا، وان اخذنا في الدنيا اخذ منا، وان اخذنا في ذكر الطعام والشراب أخذ معنا”.
وفي أدبه مع قومه كذلك ما اشار اليه الامام علي كرم الله وجهه في حديث له “وما صافح رسول الله صلى الله عليه وسلم احدا قط، فنزع يده من يده، حتى يكون هو الذي ينزع يده، وما فاوضه احد قط في حاجة أو حديث، فانصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف، وما نازعه احد الحديث، فيسكت، حتى يكون هو الذي يسكت وما رؤي مقدما رجله بين يدي جليس له قط”.
ان التواضع ينزل بالنفس في غير ابتذال لها، ولا تهاون بقدرها، ولا تجرئة للآخرين على الاستخفاف بمكانة المتواضع. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في تواضعه، لأنه اعلى الناس قدرا عند الله وعند الناس، ولكنه لا يتعالى عليهم، بل يتنزل لهم في غير امتهان، تنزل العظيم الذي يحب صحبه، كما يحب اخوته وبنيه، ويعلم انهم يحبونه ويجلونه يؤثرونه على انفسهم. وكان هذا التواضع لا يزيده الا اجلالا في اعينهم، ولايزيده الا محبة في قلوبهم وقد حدث اصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم عن تواضعه، فقال ابو سعيد الخدري رضي الله عنه: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلف الناطح ويعقل البعير، ويقم البيت، ويحلب الشاة، ويخصف النعل، ويرقع الثوب، ويأكل مع خادمه، ويطحن عنه اذا تعب، ويشتري الشيء من السوق فيحمله الى اهله، ويصافح الغني والفقير والكبير والصغير ويسلم مبتدئا على كل من استقبله، من صغير أو كبير واسود واحمر، وحر وعبد.
الزهد
روي عن الامام احمد رحمه الله ان الزهد ثلاثة وجوه:
الأول: ترك الحرام وهو زهد العوام.
الثاني: ترك الفضول من الحلال وهو زهد الخواص.
الثالث: ترك ما يشغل عن الله وهو زهد العارفين.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في الزهد، لأنه كان زهد المختار القادر، المؤمن بأن الاستمتاع المباح حلال، المؤثر على نفسه فقراء الأمة ومصالح الاسلام. وهو عليه السلام بزهده ربى كثيرا من الرجال، فتخلقوا بمثل خلقه فانصرفوا عن الخضوع للذات ومآرب النفوس، وآثروا غيرهم على انفسهم، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وغيرهم من كبار الصحابة وولاة الاقاليم، فصار زهدهم تربية وتنمية، أما التربية فللنفوس وأما التنمية فلاسعاد الناس ولتقوية الأمة.
ولزهد النبي في المال شواهد كثيرة، فلم يستأثر عليه السلام بشيء من المال الكثير الذي تدفق من الغنائم والفيء والجزية والصدقات والهدايا بل اقتصر على الخمس ، ثم لم يمسك درهما من هذا الخمس، بل انفقه في وجوهه، وقوى به المسلمين، واسعد به غيره ، وقال عليه السلام “ما يسرني ان لي أحدا ذهبا، يبيت عندي منه دينار إلا دينار ارصده لديني”.
ولم يجتمع في بطن النبي صلى الله عليه وسلم طعامان، فإن أكل لحما لم يزد عليه، وان اكل تمرا لم يزد عليه، وان اكل خبزا كفاه، وان وجد لبنا دون خبز اغناه”.
قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: “ان رسول الله صلى عليه وسلم لم يمتلئ قط شبعا ، وربما بكيت رحمة مما أرى به من الجوع ، وامسح بطنه بيدي، واقول:
نفسي لك الفداء، لو تبلغت من الدنيا بقدر ما يقويك ويمنعك من الجوع، فيقول: “يا عائشة، اخواني من أولي العزم من الرسل قد صبروا على ما هو اشد من هذا ، فمضوا على حالهم، فقدموا على ربهم فأكرم مآبهم، واجزل ثوابهم، فأجدني استحي ان ترفهت في معيشتي ان
يقصر بي غدا دونهم، فالصبر اياما يسيرة احب اليّ من ان ينقص حظي غدا في الآخرة، وما من شيء احب اليّ من اللحوق بأصحابي واخواني”.
خلق وحلم عظيمان
أوجز الحسن البصري الخلق الحسن في كلمات سديدة وعبارات موجزة رائعة فقال:
الخلق الحسن هو: “بسط الوجه وبذل الندى وكف الاذى”. وقال الامام علي بن ابي طالب رضي الله عنه في الخلق قولا رائعا سديدا، فأوجز حسن الخلق في ثلاث خصال هي:
اجتناب المحارم، وطلب الحلال، والتوسعة على العيال.
ولعل اعظم ما مدح الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، حسن الخلق، فقال جل شأنه: “وإنك لعلى خلق عظيم”.
وعن ابي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ان احبكم الي واقربكم مني في الآخرة، احاسنكم اخلاقا”.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضيلة الحلم والعفو عن المسيء انموذجا رائعا كسائر اخلاقه ومعاملاته، فهو لا يعرف الغضب الا حين تنتهك للحق حرمة، فحينها لا يقوم لغضبه شيء حتى يهدم الباطل ويزهق، أما سوى ذلك، فإنه أنأى الناس عن الغضب، فهو احلم انسان عن جاهل لا يعرف ادب الخطاب، أو مسيء الى الرسول ذاته أو منافق يتظاهر بغير ما يبطن ونحو ذلك.
ولا تتكشف عظمة حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اذا تذكرنا انه انما يعفو مع القدرة على القتل والعقاب بما يملك من قدرة على ذلك فهو في وضع يمكنه من ان يقتص من كل مسيء،
لأنه كان رئيس الدولة المطاع في قومه الى حد لا يوصف، ولو أمر بقتل امرئ لتبادر اليه مئات المسلمين، لكن الرسول الاعظم كان حليما في كل المواقف والاحوال الا موقفا ينتهك فيه الحق،
حيث القصاص والرد العادل على المعتدي، قال انس بن مالك: “خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين لم يقل لشيء فعلت لم فعلت؟ ولا لشيء لم افعله، الا فعلته”.
العشرة الطيبة والكرم
روى البخاري ومسلم ان أبا بكر دخل على عائشة وعندها جاريتان تغنيان وتضربان بالدف، والنبي صلى الله عليه وسلم متغش بثوبه، فانتهرهما ابو بكر، فكشف النبي عن وجهه وقال : “دعهما يا أبا بكر، فإنها ايام عيد”.
العشرة الطيبة هي جمال الصحبة وحلاوة المخالطة بين الناس وتحتاج الى مسلم يتحلى بالخلق الاسلامي، فمن يتحلى بالعشرة الطيبة أو طيب العشرة يجب ان يكون حليما صبورا عفوا كريما صادقا عفيفا امينا زاهدا ومتواضعا وهذه كلها وغيرها اجتمعت في رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب لنا مثلا في طيب العشرة مع اصحابه ومع زوجاته وذوي رحمه والمسلمين اجمعين وكان رسول الله يمتلك القلوب المؤمنة والنفوس الطيبة من اصحابه حتى انهم احبوه حبا عظيما يفوق حبهم لأي شيء في الدنيا، وكانت مقولتهم الدارجة والمتكررة عندما يحدثونه: “بأبي أنت وأمي يا رسول الله”. ولم تقتصر العشرة الطيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على اصحابه بل اتسعت للنساء والقريب والبعيد والطفل الصغير وفي سفره وحضره صلوات الله وسلامه عليه. وضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلا عظيما في الكرم وحسن الضيافة، وكان كرمه في سبيل الله وابتغاء مرضاته ، ولم يكن للمباهاة امام الناس. وقد كان كرمه احيانا يأتي على حساب نفسه وخاصته
واهله فهو يعطي للفقير ما هو احوج اليه من الفقير الذي يعطيه..
وكان يعطي كل ما عنده أحيانا فقد اتاه رجل فسأله، فأعطاه صلى الله عليه وسلم غنما سدت ما بين جبلين، فرجع الى قومه وقال: اسلموا فإن محمد يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة.وحمل اليه تسعون الف درهم، فوضعها على حصير، ثم قام اليها فقسمها، فما رد سائلا حتى فرغ منها.
الوفاء
إذا كان رب العزة قد شرف خلق الوفاء في كتابه الكريم، فإن رسول الله قد تحلى به، وجاء في وصف وفائه صلى الله عليه وسلم على لسان علي بن ابي طالب رضي الله عنه انه قال : “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوفى الناس ذمة”. ولم يكن وفاء رســــول الله صلى الله عليه وسلم مقصورا على اتجاه واحد بل شمل كثيرا من الاتجاهات، فكان وفيا لنعم ربه ، فشكر صاحب هذه النعم شكرا عظيما، وكان وفيا بالعهد ووفيا لكل عهد عاهده على نفسه أو عاهد غيره عليه، فلم يغدر ولو بعدوه، حتى لو كانت الضرورة أو المصلحة تستوجب ذلك.ان هذه الاخلاق الشريفة التي استعرضناها فتحت القلوب قبل الحصون وعمرت العقيدة الصالحة وحب الخير قبل
ان تعمر المساجد ومازال عبق طيبها فواحا رغم الزمان والمكان ، لأنها تمثل دعوة عملية الى دين الله.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
الإجراءات : (من قرأ ؟)
لم يشاهد الموضوع أي عضو حتى الأن.
مواقع النشر (المفضلة)