تقترن ثقافة التخلف بالمجتمعات الساكنة‏,‏ الثابتة‏,‏ المعادية للتغير‏,‏ وتراتبها الاجتماعي صارم‏,‏ لا يسمح بالحراك الحر أو الانتقال الميسور بين الطبقات والشرائح الاجتماعية‏,‏ فأفراد كل طبقة أو شريحة اجتماعية تظل أسيرة ما هي فيه‏,‏ غير مسموح لها بالانتقال منه إلي غيره‏,‏ خصوصا الأعلي‏.‏ وصرامة التراتب في البنية الاجتماعية التي تؤدي‏,‏ بتضافرها مع غيرها من البني‏,‏ إلي ما يشبه الصرامة نفسها في جمهورية أفلاطون‏,‏ حيث العدل الأفلاطوني قرين لزوم كل فئة في موقعها الذي لا يسمح لها بمغادرته‏,‏

فتظل محكوما عليها به إلي الأبد‏.‏ ولذلك يبقي الحراس في موقعهم لا يغادرونه إلي ما هو أدني منه‏,‏ حيث أصحاب الحرف‏,‏ ولا إلي ما هو أعلي‏,‏ حيث الاقتراب ممكن من الحاكم الفيلسوف‏.‏ وتراتب البنية الاجتماعية أشبه بتراتب جسم الإنسان عند أفلاطون‏,‏ أعلاه الرأس الذي يحيط بالعقل الذي هو أشرف مكونات الجسم‏,‏ ويليه الصدر في التراتب الهابط حيث القوة الغضبية في الجسم‏,‏ ويوازيها حراس الجمهورية‏,‏ وأدني من الصدر ما يليه‏,‏ إلي أدني الأدني‏,‏ حيث القوة الشهوانية الحيوانية المقترنة بكل الصفات السلبية‏,‏

خصوصا من حيث هي نقيض الرأس‏(‏ العقل‏)‏ الأعلي‏.‏ والتراتب الطبقي شبيه بهذه البنية‏,‏ صارمة التدرج إلي أعلي أو إلي أدني عند أفلاطون‏,‏ وهي كذلك في ثقافة التخلف التي تبرر التراتب الطبقي بتأويلات دينية‏,‏ تهدف إلي إضفاء القداسة علي هذا التراتب الذي لا ينبغي للإنسان تغييره‏,‏ بل الرضا به‏,‏ والعمل بما قسمه الله التي جعلته في هذا الوضع أو ذاك‏.‏

ولا غرابة أن يتصف الإنسان‏,‏ في هذا التراتب القسري‏,‏ بصفة الجبر بمعناه الكلامي الفلسفي‏.‏ وهو المعني الذي ينفي عن الإنسان حرية الإرادة وحق الاختيار‏,‏ فهو لا يشاء إلا بما شاء الله‏,‏ وعليه الرضا بما هو مقسوم له‏,‏ وما تقرر له حتي من قبل أن يوجد‏.‏ ولا فارق كبيرا بين الإنسان المجبور والإنسان الاتباعي داخل بنية التراتب المفروضة‏,‏ فالإنسان المجبور إنسان لا يملك القدرة علي المبادرة الخلاقة‏,‏

أو الفعل الجذري‏,‏ أو الاختيار الحر‏,‏ فهو إنسان يسلم نفسه إلي الأقدار وولاة الأمر‏,‏ ابتداء من الأسرة التي هي الوحدة الاجتماعية الصغري‏,‏ وانتهاء بالنخبة الحاكمة‏,‏ عسكريا أو مدنيا أو طائفيا‏,‏ فهو إنسان مبرمج علي الاستسلام لقوي بشرية وغير بشرية يراها أعظم منه‏,‏ كما يري نفسه أضعف من أن يقاومها أو يخرج عليها‏,‏ فلا يملك من أمر نفسه إلا ما يجعله الوجه الإنساني للزمن المنحدر عن نقطة الابتداء في الماضي الذي يتحول المستقبل إلي عود إليه‏,‏

ولا يفارق هذا الإنسان دوائر الطاعة والتصديق في كل مجال‏,‏ والرضا بما يأتي به القضاء والقدر دون مقاومة أو تمرد‏,‏ فالمقاومة كالتمرد خروج علي الناموس الإلهي والاجتماعي والسياسي في آن‏.‏ وطاعة الله فيما قدر علي هذا الإنسان ويسره له هي الموازي الديني الذي تتأكد به طاعة السلطان‏,‏ وإن جار‏,‏ والأساس الذي ينبني عليه البعد السياسي الذي يدفع هذا الإنسان إلي اتباع كل من يتمسح في الدين‏,‏ أي دين‏,‏ أو ينطق باسمه‏.‏ وتعني صرامة التراتب‏,‏

من هذا المنظور القمعي‏,‏ أمرين متلازمين‏:‏ أولهما غياب الحوار المجتمعي بين الفئات المتباعدة‏,‏ المحصورة في مداراتها المغلقة‏,‏ وذلك بما يؤدي إلي الانفجار والعنف في حالات عديدة‏,‏ نتيجة انعدام التواصل‏.‏ وثانيهما وجود ثنائيات قائمة علي التضاد الذي يعلو فيها الطرف الأول ليهيمن علي الطرف الثاني في كل الأحوال‏.‏ هكذا يعلو الأكبر سنا بالقياس إلي الأصغر‏,‏ فالأول كنز للتجارب المختزنة‏,‏ والحكمة التي لا يعرفها هوج الشباب‏,‏ ويتميز الذكر علي الأنثي‏,‏

والأصيل علي الوافد‏,‏ والقديم علي الجديد‏,‏ والثبات علي الحركة‏,‏ والنخبة علي الجمهور‏,‏ وعلم الخاصة المضنون به علي غير أهله من الصفوة علي معارف العامة التي لا وزن لها مثلهم في المرتبة الاجتماعية الموازية للمرتبة المعرفية‏.‏ وأضف إلي ذلك الأحرار مقابل العبيد والموالي في المجتمعات القديمة‏,‏ والسود علي البيض‏,‏ والأغنياء علي الفقراء‏,‏ حيث مجتمع اللامساواة الذي يحدد قيمة المرء بما يملك‏,‏ غاضا النظر عن أصل الثروة‏.‏

ولا تختلف الثنائية في أحوال التراتب الذي يضع العسكري مقابل المدني‏,‏ مثل الجمهورية الأفلاطونية التي يعلو فيها الحراس علي أصحاب الحرف‏,‏ والمتدين‏(‏ أو مدعي التدين‏)‏ علي غير المتدين‏,‏ والمشايخ علي الأتباع في أحوال الهيمنة الدينية‏,‏ والأقرباء علي الأباعد في أحوال حكم الطائفة أو القبيلة‏(‏ مثال ذلك تكريت وأبناؤها في عهد صدام‏,‏ وأبناء النخبة الحاكمة‏,‏ طائفة أو قبيلة‏,‏ علي جمهور المحكومين‏)‏

وذلك في السياق الذي يتحول فيه المواطنون إلي رعايا‏,‏ إذا استخدمنا عبارة خالد محمد خالد‏,‏ أيام ثوريته التي كتب فيها دفاعه عن الدولة المدنية مقابل الدولة الدينية التي قرنها بالتخلف في كتابه‏'‏ من هنا نبدأ‏'(1950),‏ وذلك ابتداء لدعوته إلي الديمقراطية أبدا‏(1953)‏ ولكي لا تحرثوا البحر‏(1955).‏

وللمرأة مكانة مقموعة إلي أبعد حد في بناء التراتب الذي يعاديها‏,‏ ويستريب بها‏,‏ فيجعلها حليفة الشيطان‏,‏ ومصدر الفتن‏,‏ ولا يري فيها سوي جسد يغوي‏,‏ وفريسة لابد من اقتناصها واقتنائها‏,‏ فهي ناقصة عقل ودين‏,‏ لا أمان لها‏,‏ ولا اطمئنان منها إلا بقمعها بأشد أنواع المراقبة والعقاب‏,‏ وذلك كله في السياق الذي انتهي بحركة طالبان في أفغانستان إلي فعل ما فعلت بالمرأة التي نقبوها وحرموها حتي من حق التعليم‏,‏

معطلين بذلك النصف الذي لا يمكن أن يتقدم المجتمع إلا به‏,‏ بل لا يقاس تقدم أية بنية اجتماعية إلا بالمكانة التي تمنحها للمرأة والأدوار التي يفترض أداءها‏,‏ بوصفها‏,‏ حقا طبيعيا وليس منحة أو تنازلا مقرونا بتعدد أشكال التمييز ضدها في كل مجال‏,‏ وهو الأمر الذي لا يزال مترسخا في ثقافتنا التي يخالف فيها الظاهر الباطن‏,‏ وتناقض الممارسة الفعلية الشعارات المرفوعة‏.‏

وكما يقوم البعد الاجتماعي علي تقليد أسوأ ما في تراث التخلف الذي يعاد إنتاجه‏,‏ مكتسبا دلالات جديدة مضافة‏,‏ يقوم البعد نفسه بتأويل القشرة الخارجية من المرأة الجديدة في الغرب الأوربي الأمريكي‏,‏ مختزلا إياها في مجرد أزياء‏,‏ أو تحرر مدعي في أقليات محدودة‏,‏ ضمن الفئات الميسورة‏,‏ عملا بقاعدة ابن خلدون‏:‏ المغلوب يتبع الغالب‏,‏ سواء علي الضفة الأخري من البحر المتوسط في الحاضر‏,‏ أو في لحظات سلبية‏,‏ مهزومة‏,‏ في الزمن القديم الذي لا يزال غالبا في مدي اللوازم الاجتماعية لثقافة التخلف‏.